حينما تعرفنا عليها لأول مرة تذكرنا على الفور موضوع الرسوم المسيئة للنبي –صلي الله عليه وسلم-.. كان ذلك منذ شهر مضى في الأيام الأولى لنا في هذه الجامعة الأمريكية، حيث اعتدنا أن نتعرف فيها على الطلبة الأجانب مثلنا.. قالت إن اسمها سين، وإنها من الدانمارك.. في الظروف العادية المرء لا يهمه كثيراً الفرق بين الدول الأوروبية، لكن الدانمارك كانت قد اكتسبت أهمية خاصة بعد أزمتها الشهيرة مع العالم الإسلامي في أعقاب نشر الكاريكاتيرات المسيئة للنبي محمد –صلى الله عليه وسلم- منذ عامين.. وفي خضم المناقشات الثقافية المتبادلة بيننا عن دولنا لم نفتح موضوع الرسوم المسيئة باعتباره قد انتهى.. بالمناسبة قالت لنا سين إنها تدرس الصحافة!
الأسبوع الماضي تفجرت الأزمة من جديد.. الصحف الدانماركية تعيد نشر الرسوم المسيئة في تحدٍ سافر للعالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، بل لمسلمي العالم كله بمن فيهم مسلمو الدانمارك.. والسبب إلقاء القبض على متهمين بالتخطيط لقتل رسام الكاريكاتير الذي رسم الرسوم.. وعادت الأزمة من جديد!
على مائدة الغداء نطرح الأزمة للنقاش وهذه المرة مع صديقي التركي "فتيح" والكولومبي "ادجار".. هز "فتيح" رأسه ببساطة، وقال إنهم لا يبالون في الدانمارك لغضبة الشعوب العربية والإسلامية أينما كانوا.. ومن يبالي لغضب الضعفاء؟.. مادامت دولنا ضعيفة فلن يخافونا.. لو كنا أقوياء لما تجرأ أحد في عرض الدانمارك وطولها على إهانة نبينا.
وأبدى "ادجار" استغرابه لنقاشنا فلما طرحنا عليه الأمر..
قال إنه قد قرأ عن الأزمة السابقة بين الدانمارك والعالم الإسلامي.. ثم تساءل مندهشاً: هل أعادوا نشر الرسوم؟.. وصمت بعدها يستمع للنقاش الدائر بيني وبين "فتيح".. كلانا مسلمان نتحدث بغضب منتقدين ما فعلته الصحف الدانماركية.. أحدثه عن المقاطعة التي نادى بها الكثيرون في مصر والعالم العربي للسلع الدانماركية، فيخبرني أن البعض أيضا نادى بمقاطعة السلع الدانماركية في تركيا.. هذه المقاطعة تستمر لأيام.. لأسابيع.. لشهور.. ثم يعود كل شيء لما كان عليه.. وربما أفضل!
وهنا بدأ "ادجار" الحديث.. بهدوء سألنا: هل تظنون أن الدانمارك هي من تسخر من النبي محمد؟.. أعتقد أنني رأيت رسماً يسخر منه من قبل في صحيفة كولومبية.. هل قاطعتم كولومبيا بعدها؟
والتقط "فتيح" الخيط وأيد وجهة نظره.. من قال إن إهانة الإسلام تقتصر على الدانمارك وحدها؟.. موضوع الدانمارك أخذ شهرة واسعة النطاق وكأن لا أحد في العالم يهين الاسلام أو يسخر من النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- سوى الدانمارك.. نحن هنا في أمريكا والحرية هي اسم اللعبة.. عشرات المقالات يومياً تسخر من كل الأديان السماوية.. تسخر من الأنبياء جميعهم.. عديمو الدين تقابلهم في كل مكان ويتحدثون باسم الحرية ساخرين من المؤمنين بوجود الله أصلاً.. هل يمكن للعالم الإسلامي أن يقاطع كل هؤلاء؟..
وتذكرت لوحة إعلانية ضخمة تراها في مدخل مدينة نيويورك كتب عليها بحروف كبيرة: "لا تؤمن بوجود إله؟.. لست وحدك.. انضم إلينا" ثم اسم موقع على الانترنت يجمع منكري وجود الله!
لكن النقطة دائماً هي لماذا يتعمدون إهانة نبينا محمد بالذات؟.. لماذا يفعلون ذلك وأمامهم ردود الفعل الغاضبة التي ملأت الشوارع الإسلامية وانهالت على سفارات الدانمارك في كل العواصم الإسلامية وحملات المقاطعة التجارية؟.. والسبب واضح.. أنهم لا يبالون.. المسلمون ضعفاء.. هذه هي القاعدة!
وماذا عن الفتاة الدانماركية سين؟.. كان الموضوع مفتوحاً للنقاش على موقع Facebook الشهير كالعادة.. نشرت صديقة لنا عدداً من الوصلات التي تتحدث عن خبر إعادة نشر الرسوم المسيئة، وطلبت من سين تعليقاً.. وردت سين باعتبار أن بلادها تتعرض لهجوم شرس الآن.. هي تعرفنا جميعاً كمصريين مسلمين، وتفهم جيداً أسباب غضبنا.. وتعرف أنها لابد أن تقرر موقفها.. لابد أنها رأت نظرة كراهية أو غيظ ما في أعين صديقتنا..
وفي اليوم التالي جاء رد سين طويلاً ومنطقياً.. كتبت لنا جميعاً رأياً طويلاً تشرح فيه أنها لم تتوقع أن تثير رسومات كاريكاتيرية في صحف تنشر في بلد مثل الدانمارك كل هذه الردود الغاضبة في العالم كله بين المسلمين.. قالت إنها رأت بعينيها كيف تتسبب بعض الأقلام المستفزة في صحف بلدها في تشويه صورة بلد صغير في حاله مالوش دعوة بالسياسة العالمية وهمومها مثل الدانمارك.
سين أضافت أنها أسست مع أصدقائها مجموعة على موقع Facebook اسمها "آسفون يا محمد"، يقدمون فيها اعتذارهم بالنيابة عن الشعب الدانماركي إلى مسلمي العالم، رافضين فيه الإساءة إلى النبي محمد مع رفض سلوك من قاموا بإشعال الحرائق في الدانمارك أو خططوا لقتل رسام الكاريكاتير.. وفي النهاية دعوة للمسلمين ألا يلقوا بذنب عدد من الصحف الدانماركية على الشعب الدانماركي كله، مثلما نطالب نحن بألا نلقي بذنب عدد من المسلمين خططوا لقتل الرسام على العالم الإسلامي كله.
هكذا جاء ردها.. هي تدرس الصحافة وتعرف جيداً معنى حرية التعبير في بلدها.. وتفهم أيضا أن حكومة بلدها لا تبالي كثيرا بغضب العالم الإسلامي.. فقط كل ما يهمها هو سمعة بلدها.
ويبدو أن "فتيح" كان محقاً جداً حينما قالها لنا.. إن بلادنا ضعيفة.. لو كنا أقوياء لما أهاننا أحد.. ولو جرؤت صحيفة دانماركية ونشرت الرسوم لانتقدتها باقي الصحف.. ولو نشرتها كل الصحف لانتقدتها الحكومة الدانماركية وقدمت للعالم الإسلامي اعتذاراً رسمياً على طبق من ذهب.. فقط لو كنا أقوياء..
لكن الحقيقة أننا لسنا أقوياء.. بلادنا أضعف كثيراً من أن يبالي بها الدانماركيون!